كيف ينفذ الآخرون إلى مجتمعاتنا؟!! إنَّهم ينفذون لأنَّنا لا نعيش بشخصية المجتمع ولكنَّنا نعيش بشخصية الفرد، من الطبيعي أن أعيش معك وتعيش معي في بيت واحد، ولكن عندما تفكر في نفسك بصفتك الفردية، وأفكر في نفسي بصفتي الفردية، فمعنى ذلك أنَّه لا رابطة بيننا وإن كان البيت يضمّنا معاً. إنَّنا عندما نكون أفراداً مجتمعين في مكان واحد لا تربط بيننا رابطة عضوية ولا تحكمنا حالة شعورية عاطفية، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الثغرات تعيش في حياتنا بشكل طبيعي جداً. ويمكن أن ينفذ منها كلّ النّاس، ولذلك فإنَّ الأعداء عندما ينفذون إلى أيّ مجتمع إنَّما ينفذون إليه لأنَّ أبناءه لا يُمثّلون مجتمعاً مترابطاً، بل أفراداً متفرقين يتحرّك كلّ منهم في دائرته الخاصة وإن جمعهم تجمُّع واحد. وحدهم المؤمنون الذين يعيشون الإيمان بعمق ويخلصون للّه بعمق، هم الذين يعتبرون الترابط فيما بينهم أمراً أساسياً، بحيث لا يسمح إيمانُ أيِّ إنسان منهم أن ينفصل عن أخيه أو أن لا يعيش همّ أخيه، بحيث إنَّه لو فقد اهتمامه بآلام إخوانه فإنَّه يخرج عن الإسلام «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»، هذا هو مثل المجتمع المؤمن. وهكذا نجد: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها»، ومن الصعب أن يربي الإنسان نفسه هذه التربية: أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. ثُـمَّ »من لـم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم«، و »من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم«.
ومن هنا نرى أنَّ الإسلام يركّز على العلاقة التي تجعل الإنسان يعيش الشعور بالآخرين من المؤمنين كما يشعر بنفسه، والمسألة تحتاج إلى تربية ومعاناة وجهاد نفس ووعي للإسلام. وهكذا استطاع ذلك المجتمع المسلم الصغير بالرغم من وجود نقاط الضعف والمشاكل فيه أن يشكل قوّة {أشدَّاء على الكفّار} (الفتح:29)، وهذه صفة ثانية من المواصفات التي أودعها اللّه في المؤمنين، بأنَّهم يقفون بقوّة أمام مجتمع الكفر والاستكبار والظلم الذي يحاول قهر المجتمعات الأخرى، ولأجل ذلك يستنفرون كلّ عناصر القوّة وكلّ عناصر الشدّة وكلّ عناصر العنف في مواجهة الذين يريدون أن يفرضوا عليهم سيطرتهم من مواقع الشدّة والقوّة ليكونوا الأقوياء في هذا المجال، لأنَّ القرآن كان يحشد القوّة في نفوسهم ويحشد الشدّة في كلّ مواقفهم: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين النّاس} (آل عمران:139ـ140)، وهذا ما نحتاج إلى أن نعيشه إلى جانب أن نكون الرحماء فيما بيننا، أن نكون الأشداء على كلّ الذين يريدون أن يحاربونا في ديننا أو في حريتنا أو في عزّتنا أو في كلّ مواقع العدالة في مجتمعنا، فلا نستسلم لهم ولا نضعف أمامهم ولا نسترخي عندما يواجهوننا بالتحديات .. أن لا نعاونهم ولا نتجسس لهم، وأن لا نكون الجنود الذين يحاربون معهم ولا الأصوات التي تؤيدهم أو تبرر ظلمهم. من يفعل ذلك فهو خارج عن خطّ رسول اللّه ودائرته ودائرة المسلمين وداخلٌ في دائرة الكافرين.. فأيّ كفر أعظم من أن تعين الكافر والظالـم على أخيك.. أيّ كفر عملي أعظم من ذلك.. فما قيمة أن تكون مؤمناً بلسانك إذا كانت كلّ حياتك حركةً في اتجاه تقوية الكفر ودعمه أيّاً كانت مواقع الكفر، سواء كانت مواقع ثقافية أو سياسية أو أمنية واقتصادية. فالذين يتجسّسون للكافرين في الداخل والخارج ويعملون على تمكينهم من المؤمنين هم في دائرة الكفر لا في دائرة الإسلام. فإنَّ هؤلاء خانوا اللّه ورسوله، وغداً يوم القيامة سيحاسبهم حساباً عسيراً... أن نكون أشداء على الكفّار لا أن نكون أشداء لمصلحة الكفّار ولا أن نكون جنوداً لهم ومخابرات.
الصفة الثالثة {تراهم ركّعاً سجَّداً} إذا كنت تريد أن تدخل في مجتمع رسول اللّه وأن تنال محبته شفاعته، أخلص للّه في عبوديتك، كن الراكع للّه بعقلك وبقلبك، كن الساجد للّه بعقلك وبقلبك، لأنَّ الكثيرين يسجدون للّه على جباههم، ولكنَّهم يسجدون للشيطان في عقولهم وقلوبهم، أن تكون قريباً إلى اللّه في سجودك إذا توافق سجودك الجسدي مع سجودك القلبي للّه، بحيث كان قلبك خاضعاً للّه ساجداً له تماماً كما هي جبهتك ساجدة له. فالمؤمنون في مجتمع الرسول (ص) كانوا يعيشون ذلك، يركعون ويطلبون من اللّه أن يمنحهم فضله، يسجدون وقلوبهم متعلّقة بكلّ ما يمنحهم اللّه من فضله {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} (الفتح:29)، لأنَّ السجود كان طبيعةً من طبائع حياتهم لذلك أثرّ على جباههم تأثيراً طبيعياً.
وفي هذا الجو أحبّ أن أؤكد أنَّ التركيز الإلهي جاء على أنَّ مجتمع الرسول (ص) هو مجتمع الراكعين الساجدين الذين يبتغون من اللّه فضلاً ورضواناً، وهذا يعني أنَّ الجانب الروحي الذي ينفتح على اللّه من خلال مواقع العبادة للّه والخضوع له والابتهال إليه يعتبر الأساس في حياة المسلم، أن تربي نفسك على أن تكون الراكع للّه بقلبك وعقلك وضميرك وحياتك وجبهتك، وأن تكون الساجد للّه في ذلك كلّه، أن تكون روحيتك منفتحة على اللّه، وأن يكون قلبك خاشعاً للّه، وأن تكون كلّ حياتك بين يدي اللّه، لأنَّه لا يكفي أن تكون مسلماً بكلامك وبفكرك وجهادك ما لـم تكن مسلماً بروحك المنفتحة على اللّه والخاشعة له {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكلون} (الأنفال:2) لهذا أؤكد على التربية الروحية، فلنربّ أنفسنا وندربها على أن ننمي روحيتنا بانفتاحنا على اللّه، لأنَّنا كلّما استطعنا أن نحصل على الانفتاح على اللّه أكثر وعلى القوّة الروحية أكثر كلّما كنّا الأقوى في مواجهة الشدائد.
وبما أنَّ الرسول (ص) هو القدوة والأنموذج، فإنَّنا نجد أنَّ هذه القوّة الروحية المنفتحة على اللّه تنجلي في مواجهته لقريش، وممّا يروى عنه أنَّه كان يسهو أثناء اشتداد المعركة ويقول: »يا عليّ يا عظيم«، كأنَّه يقول: يا ربّ إنَّ الموقف في هذه المعركة هو موقف إمّا أن يكون العلو فيه للمسلمين وإمّا للمشركين، وأنت العليّ فأعطنا العلوَّ وأنت العظيم فأعطنا العظمة، وهكذا كانت طاقة رسول اللّه الروحية هي التي استطاعت أن تثبته في أشدّ المواقف قساوة، ونحن نحتاج إلى هذا الانفتاح على اللّه، وهذه المحبة للّه، وهذه العبادة للّه حتى نستطيع من خلال ذلك أن نحمي بعضنا من بعض وأن نحمي أنفسنا من خطر غرائزنا، وأن نثبت أقدامنا يوم تزلّ فيه الأقدام، لذا فإنَّ الذين يركعون على أبواب السلاطين ويسجدون على أعتاب المستكبرين ويستنكفون أن يركعوا للّه وأن يسجدوا للّه ويسخرون من الذين يصلون، فهؤلاء ليست لهم علاقة بالإسلام ولا باللّه، وإنَّما تنحصر علاقتهم بالكفر، فمن يفعل ذلك كلّه كيف نصنفه في دائرة المسلمين.
{يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً} أن يكون ذلك تفكيرهم في الليل والنهار، فهم عندما يتكلّمون يسألون أنفسهم: هل للّه رضىً في هذه الكلمة؟ عندما يعملون يتساءلون هل في هذا العمل رضى للّه؟ عندما يؤيدون هل في هذا التأييد رضى للّه؟ عندما يرفضون هل في هذا الرفض رضى للّه؟ إنَّهم لا يتحدّثون عن رضى زيد وعمرو، بل كلّ همّهم أن يرضى اللّه عنهم، وإذا رضي اللّه عنهم فلا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم »إن لـم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي« هذه هي الروح التي كان يعيشها ذلك المجتمع المسلم.
ومسألة أن نكون كذلك صعبة شاقة، لكنَّ الإنسان الذي يدرب نفسه على الصعب سوف يتحول الأمر الصعب عنده إلى أمر سهل... أن ندرب أنفسنا على كلّ هذه الأخلاق الإسلامية، لنعتبر حقيقة واحدة، هي أنَّ الكثيرين منّا يعتبرون الحياة فرصة للراحة وفرصة للاسترخاء، ولذلك يثقلهم التعب وتثقلهم المسؤولية، لكن عندما نعرف أنَّنا خلقنا للآخرة من خلال الدنيا، وأنَّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنَّنا هنا في مواقع العمل {يا أيُّها الإنسان إنَّك كادح إلى ربِّك كدحاً فملاقيه} (الانشقاق:6) الدنيا ليست فرصة للراحة، وإن كان اللّه لا يمنعك أن ترتاح فيها، لكن علينا أن لا تكون الراحة هدفنا. أن لا تكون اللذات والشهوات والسعادة الدنيوية كلّ طموحاتنا، أن نعتبر أنَّ ما بين أيدينا من أموالنا ومن كلّ ما يحيط بنـا هو حاجة، أمّا هدفنا فهو رضى اللّه، ولذلك فإنَّ علينا أن نحرّك كلّ طاقاتنا في هذا الاتجـاه، حتى نحصل على الراحة هناك، ونحصل على رضوان اللّه، هناك وبذلك فإنَّ الملائكة تستقبلنا {سلام عليكم بما صبرتـم فنعم عقبى الدار} (الرعد:24).